السبت، 25 يوليو 2009

انها الحياة الدنيا

فى أحد أركان المقهى جلست منزوياً أراقب عن كثب ذلك الصراع الدائر بين المرض و الصحه .... بين الموت و الحياه

جلست مراقباً باب المستشفى وهى تستقبل حالات الطوارئ ( حوادث ، إصابات مفاجئه ، آلام مفاجئه ) ... الكل يدخل مسرعاً إلى المستشفى بعد إلقاء اللوم و الشتائم – ان اتسع الوقت – على حراس أمن البوابة الرئيسية لإصرارهم على دخول مرافق واحد فقط مع كل مريض حتى لا يتكدس الناس بالداخل ، وهذا غالباً ما يحدث برغم محاولات الأمن للسيطرة على الناس ، فالمكلوم فى عزيز لديه لا يهمه الحواجز ، و القلق على قريب أو نسيب له ، لا يرى و لا يسمع ... حيث أن حواسه مركزه على المريض أو المصاب ....

سيل مفاجئ من سيارات الإسعاف يتقدم بسرعه نحو المستشفى ... بوابات المستشفى تفتح على مصراعيها لتدخل سيارات الإسعاف و ليتدفق بعض المنتظرين بالخارج الذبن منعهم الأمن بسرعه إلى داخل المستشفى ....

بعد دقائق تصل عدة سيارات تحمل رجالاً قلقين يبكى بعضهم و نسوةٍ متشحين بالسواد يصرخن و يلطمن و يندبن على مصابيهم و موتاهم فى ذلك الحادث الذى عرفت فيما بعد انه وقع على الطريق المؤدى لإحدى القرى نتيجة رعونة السائق و تسابقه مع زميل له

تفترش النسوة الأرصفة أمام المستشفى و تستمر الصرخات و البكاء و العويل .... تلك الأصوات التى تشق الصدور و تدمع العيون و توجع القلوب .... أحسست أن هناك من يضغط على صدرى بقوه ليعتصر قلبى بداخله ...

كم أنتِ غريبة أيتها الدنيا ... فى الصباح ودع أحدهم أمه أو أخته أو أبنه على أمل اللقاء ... ولم يعد ... ولن يعود ...

طفل صغير رأيته أول أمس محمولاً على يد عمه مصاباً نتيجة سقوطه من شرفة منزله بالطابق الثالث ... وضعوه فى العناية المركزة بعد أن قاموا بعمل ما يلزم من اسعافات و إجراء عمليه جراحيه دقيقه ... وهو الآن يصارع الموت .... التقيت أبيه عندما حضر ... شاب فى ريعان شبابه أغلب الظن أنه فى أوائل العشرينات من عمره ... وسيم ... طويل الشعر ... يبكى بغزارة وحرقه ... حاولت أن أواسيه ... تقبل كلماتى على مضض ... وظل يبكى ...

لا أعلم لماذا تذكرت هذا الطفل عندما رأيت تلك الشابة تهرول ناحية الباب الصغير للمستشفى ....

تابعت بعينى ما تفعله ... انها تتكلم مع أحد حراس الأمن ... ثم تركها تدخل من الباب الصغير ...

شاب يستقل دراجةً بخاريه يصل إلى الباب الصغير ... يوقف دراجته بسرعه و ينزل مسرعاً تجاه الباب .... يحتضنه بسرعه حارس الأمن .... و يهمس له بشئٍ فى أذنه ....

يصرخ الشاب ... لالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالا

صرخةً قويه تشق الأرض و تشق القلوب .... لالالالالالالالالالالالالالا ..... يتوافد البعض مترجلين و راكبين على نفس الباب .... يبكون .... يصرخون .... يشقون قلبى ... يعتصرون روحى ... أحس بالألم يسكن كل جزءٍ فى جسدى ...

وهنا ..... تخرج الأم الشابة الثكلى .... منهاره .... فقدت وليدها ... ابنها الوحيد ... تحتضنها بعض السيدات ... وهى لا تكاد تستطيع الوقوف ....

أحس أن كل الحزن فى الدنيا لا يكفى هذا الموقف .... حتى يثبت لى العكس بعد ثوانٍ فقط ....

يظهر ذلك الأب الصغير الذى تكلمت معه أمس الأول ... مستنداً إلى أحد أقاربه .... ياااااااااااااااااااااااااااااااارب ..... هذا ما قاله ....... من كل قلبه و من عمق إحساسه ........ يااااااااااااااااااااااااارب ............ ابنى يارب .......... تنهمر الدموع من عيناه كالمطر ... و يسقط أرضاً ..... لا تقوى قدماه على حمله ........ اسرعت إليه و احتضنته .... احتضننى بشده .... ثم نظر إلى وجهى ..... و قال لى وصوته يتهدج من البكاء ..... مش قلتلى هيبقى كويس ؟؟؟؟ ..... مش قلتلى هيبقى كويس ؟؟؟؟؟ .....

احتضنته بقوه ........... بكيت معه .... وبكيت على حاله ... وبكيت على ابنه ....

انها إرادة الله عز وجل .... إلا أن فقد طفل فى الثالثة من عمره يوجع القلب مثل فقد رجل فى السبعين من عمره .... الموت واحد .... و الحزن واحد .... و وقع الصدمة واحد ... مهما قال أحد عكس ذلك ...

تنشق الأرض عن مجموعةٍ مسرعه من السيارات ... يطلقون الأبواق و جميعهم بلا استثناء رافعى صوت أجهزة الكاسيت فى سياراتهم .... مطلقين أبواقهم بتلك النغمة المصرية الشهيرة للأفراح .... يمرون أمام المستشفى بكل وقاحه معلنين عن فرحتهم ....

إطار إحدى السيارات يعبر على مقربة منى و من ذلك الأب المكلوم فى فلذة كبده ... متر واحد يفصل بين المكلوم و بين اللاهى .... متر واحد يفصل بين وهم الحياة و حقيقة الموت ...

أناس بداخل هذه الأسوار يتألمون ... جسدياً و نفسياً و عاطفياً ... و أناس خارجها يلهون و يعلنون بكل وقاحه عن عدم اكتراثهم بما يحدث لغيرهم ... طالما هم فرحين ....

انها مفارقات الحياة الدنيا التى لا تستحق سوى اسمها ........... الدنيا ....